اعترفت أكثر من مرة وعلنا بأن الجزائر تعاني من قصور إعلامي فاضح وتقصير فكري فادح وروماتيزم شللي في فن العلاقات العامة، وكان من نتائج كل هذا أن كثيرين خارج الجزائر أصبحوا بعيدين كل البعد عن فهم ما يحدث في أكبر الدول العربية الإفريقية، وكما ظن البعض يوما بعد استرجاع الاستقلال بأن الرئيس أحمد بن بله تزوج المجاهدة جميلة بو حيرد، لأنهما الاسمان المشهوران في الثورة الجزائرية، يظن البعض اليوم أن التناقض القائم الآن في الجزائر هو قضية مرحلية نتجت عن اختلاف في وجهات النظر تجاه موقف المؤسسة العسكرية الرافض لكل خروج عن دستور البلاد.
والواقع هو أن التناقض قديم، ويرجع في جذوره إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي، الذي عمل جاهدا لتطبيق مبدأ «فرق تسُدْ»، لولا أن أرواح ملايين الشهداء منحت شعبنا البصيرة القوية والوعي الكامل بكل ما يتعلّق بأهمية الوحدة الوطنية، ومن هنا تألّق الحراك الشعبي بسلميته وبإدراكه للحدود التي تتحكّم في دور الحشود، ورفضه بالتالي لكل من حاول أن يتاجر بأصوات الجماهير.
لكن لا بد من الاعتراف بأن بعض الكتاب العرب، صحفيين أو هواة خربشة، يتحملون مسؤولية هامة في عدم وضوح الصورة، فمعظمهم يصدر الأحكام المطلقة على مواقف الأطراف الجزائرية بدون وقفة سريعة لمعرفة هوية وخلفية كل طرف من هذه الأطراف، وهي أحكام تتأثر غالبا بالأوضاع التي تعيشها المنطقة العربية بفعل الثورات المضادة التي تغذيها أموال النفط ومخططات القوى الاحتكارية في الشمال، طبقا للتحليل الشهير الذي عبر به الرئيس الجزائري الراحل هواري بو مدين عن حقيقة الصراع في عالم اليوم.
وللتوضيح أكثر، نجد أن الجزائر تعرف اليوم تيارا يتشنّج بشكل يزداد عنفا كلما ازداد نفور الشارع الجزائري من بعض التحركات التي عرفتها البلاد في الجُمعات الأخيرة، وتمثلت في استحداث شعارات لا تنسجم مع التوجّه الوطني للحراك ولا تعبر عن الإرادة العامة للجماهير، وبدا الأمر محاولة لتصفية الحسابات لمصلحة اتجاهات معينة لا تحظى بأي إجماع أو توافق، بل ودفاعا ضمنيا عن أشخاص موضوعين اليوم تحت تصرف العدالة.
وجُنّدتْ حشود صاخبة حيث تتركز كاميرات التلفزة، ركزت هجومها على المؤسسة العسكرية بشكل بذيء وغبيّ في الوقت نفسه، حيث ارتفعت أصوات منكرة تتهم المدافعين عن سداد موقف المؤسسة العسكرية بلحس الرونجاص (الأحذية العسكرية) ورفعت لافتات تصف رئيس أركان الجيش بالخيانة وتتهمه بالعمالة للإمارات العربية المتحدة، وهو الفخ الذي وقعت فيه قطر، ربما بحكم وضعية الحصار الذي تعانيه، ونتج عنه دعوة أحد عناصر الاتجاه اللائكي البربري لزيارة الدوحة، بما بدا للبعض كعقاب ساذج للجماهير الجزائرية، برغم أن موقف هذه كان، كالعادة، نبيلا في أحداث الخليج.
المهم، هناك اليوم إحساس عام بأن الحراك الشعبي في الجزائر حقّق أهم أهدافه، وبأن المطلوب الآن هو تنظيم الانتخابات الرئاسية في أحسن الظروف الممكنة، وهو ما تحاول السلطات التعامل معه برصانة وبهدوء، يرى كثيرون أنه تجاوز حده في تساهله مع وضعية التهريج التي تبدو في تصرفات من يدّعون العمل على تحقيق حوار وطني بناء.
ويتمثل التهريج في مطالبات يرى البعض أنها مزايدات تستهدف إحراج السلطات العمومية العاجزة عن الترويج الجيّد لمواقفها، بينما يرى البعض الآخر بأن المتشنجين في المطالبات هم في واقع الأمر واجهة لنفس التيارات اللائكية والبربرية التي فشلت في تجنيد الشارع لدعم طروحات حاولت عبثا انتزاع دعم المؤسسة العسكرية لتكوين هيئة رئاسية مؤقته تستنسخ ما عاشته البلاد في بداية التسعينيات، وهو ما رفضته السلطات الجزائرية بكل حزم لأنها تعرف الثمن الرهيب الذي دفعته الجزائر عندما خرجت عن الدستور ولم تسترشد بتجربة السبعينيات الناجحة، التي ضمنت الانتقال السلس للسلطة إثر انتقال الرئيس بو مدين إلى رحاب الله.
وما يحدث هو أن الإعلامي العربي بشكل عام، ونظرا لتسارع الأحداث وازدحام الوقائع وصخب الإعلام، أصبح اليوم أسيرا لمنطق «هات من الآخر»، بحيث أن كثيرا من الكتّاب لا يعملون للاستفادة من الثروة التي توّفرها الشبكة العنكبوتية اليوم، خصوصا منهم من لم يعش السنوات التي كنا نعاني فيها الأمرّين للحصول على وثائق تاريخية نعتمد عليها في فهم الماضي وتحليل الحاضر واستشراف المستقبل، وأصبح كثيرون من أولئك في وضعية «شاهد ما شافش حاجة»، مع الاعتذار لعادل إمام.
وكمثال بسيط، لم أقرأ لمن توقف لحظات عند خلفيات المواقف التي تعلنها وتسير على هداها الاتجاهات الفرانكو لائكية، وحقيقة النزعات البربرية التي تتعامل مع التوجهات الأمازيغية الوطنية بأسلوب الطائرة المختطفة.
وكنت تناولت قضية «الباءات» وشرحت وجهة نظري فيما يتعلّق بها، كما توقفت مطولا عند القضية الأمازيغية، واستعملت كلمة «حكاية» عمدا، وهو ما أزعج بعض من لم يدركوا أنني تفاديت كلمة «الأزمة» لأنني أرى أن الأمر مفتعل من أساسه، وأن القضية التي تثار اليوم لا علاقة لها لا بالثقافة ولا بالأصالة ولا بالتاريخ، وهي لا تتجاوز في كثير من الحالات عمليات ابتزاز صاخبة تستهدف انتزاع مكاسب سياسية على حساب المصلحة العامة، التي تفرض الإسراع بالانتخابات الرئاسية، وتجعل من المطالبة بإنشاء اللجنة المستقلة لتنظيم الانتخابات الرئاسية أولوية الأولويات.
بدلا من هذا سمعنا مطالبات بالإفراج عمن يُطلق عليهم «سجناء الرأي»، وهي صيحة حق مفتعل تسعى لتحقيق باطل مؤكد هدفه إعطاء الشرعية لرايات مشبوهة الأهداف أو لدعوات سياسية تستهدف الإخلال بأمن البلاد، بل وتقحم القوات المسلحة في وضعية تتناقض مع الانضباط العسكري بما يهدّد استقرار المنطقة كلها لا الجزائر فحسب، في حين كان المنطقي والعملي والوطني، لو صلُحت النوايا، ألا يكون المطلب هو الإفراج عن المتهمين بقرار سلطوي وبدون حكم قضائي وإنما المطالبة الحازمة بضمان المحاكمة العلنية العادلة لهم، وإلزام السلطات بتعويض كل من لم تثبت عليه التهم التي اعتقل من أجلها.
وأذكر هنا بأمر آخر سبق أن أشرت له، يعبر عنه مثل شعبي يقول «الحلوف حرام ولكن أمعاءه حلال»، ويتمثل ذلك في مطالبة من يشكّكون في قيمة الدستور وفعاليته بتطبيق المادة 55 منه، والتي تبرز حق المواطن في التنقل حيث يُريد، فالجماعة يريدون استيراد حشود من ولايات مجاورة للعاصمة لملء مناطق التظاهر التي أصبح يتفاداها معظم سكان العاصمة.
ومنظمو التظاهرات، التي يزداد صخبها مع عجزها عن تجنيد الجماهير، يتصورون أننا نسينا مطالبتهم بتطبيق وضعية الاستثناء على الواقع الحالي للجزائر، أي وضع الدستور جانبا، وهو ما لم يحدث حتى الآن، وتقرّر منع توجه أي حشود إلى العاصمة يوم الجمعة على وجه التحديد، عندما ثبت أن من بين عناصرها مكلفون باستفزاز رجال الأمن سعيا لإسقاط ضحايا أبرياء، حيث إن المستفزين ينجحون غالبا في الفرار وسط الزحام.
وتعلو الادعاءات بأن العاصمة هي ملك للجميع لتغطي على الحقيقة البسيطة وهي أن التظاهر هو تعبير عن موقف شريحة مجتمعية ترتبط بمنطقة معينة، والعاصمة ليست في وضعية واشنطن، بل هي ولاية قائمة بذاتها، ومن حق سكانها أن يعبروا بأنفسهم عن مطالبهم، وألا يسلب أحد منهم ذلك الحق بأي مبرر كان.
فالذي يطالب بحقٍّ ما يرفع لافتة المُطالبة أمام منزله ولا ينقضّ على منزل جاره ليصرخ بما يريده من شرفة الجار.
وكثير ممن يقفون وراء تجنيد التظاهرات، بالتحريض أو بالتمويل، كانوا ممن استفاد من نظام الحكم منذ الاستقلال، وممن مارسوا الابتزاز بمظلومية كاذبة غزيرة الدموع كثيفة الاهات، تفوقت في إحداث صخب وضجيج تروج له مكبرات الصوت الفرنسية، ولأنهم يعرفون بأنهم لا يمثلون الأغلبية في الشارع الجزائري، نجد أنهم ينادون اليوم الآن بعزل «أحزاب الموالاة» عن كل عمل وطني مستقبلي بحجة أن قياداتها كانت تؤيد الرئيس المستقال، وهو أمر صحيح ومخجل ويجب أن يندّد به كل من لم يقم بذلك في السنوات الماضية، لكن المنطق السياسي ليس مطالبة السلطة بحلّ هذه الأحزاب، التي تشكّل قواعدها رصيدا كبيرا في الصندوق الانتخابي (وهذا هو سرّ فزع القوم) وإنما مطالبة القواعد بطرد كل قياداتها التي توّرطت مع عصابة غير دستورية أسقطها الحراك، وتوجيه الشعب لإسقاط أي مرشح لتلك الأحزاب في الانتخابات إذا لم تطهّر نفسها من دنس، لم تكن وحدها من تلوث به.
كل هذا وكثير غيره لا تكتفي قنوات الأمة العربية ذات الرسالة الخالدة بتجاهله، ولا تحاول دعوة شخصيات جزائرية معروفة بمكانتها الفكرية والسياسية لتوضيح الأمور أمام المشاهد العربي، بل هي تمارس التزوير، وتنشر لقطات لمن تقول أنهم آلاف من الطلبة المتظاهرين المحتجين على القيادة الحالية للبلاد، في حين أن المراكز الجامعية التي تتجاوز الخمسين عددا عبر ولايات الوطن الـ48 هي في وضعية عطلة، والتجمهر المُشار له لم تعرفه كل الولايات، وتركّزَ في الشارع الرئيسي وسط العاصمة الجزائرية، وبغض النظر عن أن هناك لقطات قديمة تمّ بثها على أنها ليست كذلك.
ولم يفهم القائمون على الإعلام العربي، أو فهموا وتصرفوا على غير ذلك، بأن عدم دراسة قضية «النزعة البربرية» يقود إلى عدم فهم الكثير من التناقضات الحالية في الجزائر (وعمّنا «غوغل» لا يُقصّر في شرح القضية، سواء منذ الأزمة البربرية في الأربعينيات بل ومنذ الغزو الفرنسي في القرن الأسبق).
وكمثال بسيط، موجود في الأنترنت، أدعو المهتمين إلى قراءة العرض الذي قدمه بن يوسف بن خدة، الرئيس الثاني للحكومة الجزائرية المؤقتة (وهو بالمناسبة ليس بعثيا ولا قومجيا، فهو صيدلي خريج جامعة فرنسية تعلم بالفرنسية ولا يحسن اللغة العربية الفصحى، لكنه وطني يرى أن ثوابت الجزائر هي الإسلام والعروبة – انظر جذور أول نوفمبر 1954 الذي طبع في الجزائر سنة 1989 - Ben Youcef Ben Khedda : Les Origines du 1er Novembre 1954 Alger 1989 ).
يقول بن خدة ما ترجمه عثمان سعدي:
* - ركز الاستعمار الفرنسي على بلاد القبائل، فوجه إليها إرساليات مسيحية تبشيرية، وعمل على نشر التعليم بها أكثر من أية منطقة أخرى، وعمل على تكوين نخبة مفرنسة تؤمن بالزعم بالأصول الرومانية والآرية لسكان المنطقة، وتعتبرهم أقرب إلى الفرنسيين وأكثرهم استعدادا للاندماج في الأمة الفرنسية.
* - كان المناضلون القبائل، في غالبيتهم العظمى، يرفضون أفكار هؤلاء التي يعتبرونها من تأسيس الاستعمار الفرنسي.
* - وجد البربريست (دعاة النزعة البربرية المتناقضة مع الانتماء العربي الإسلامي) ميدانا خصبا بفرنسا في أوساط المغتربين، فقد استطاع الطالب محند علي يحيى المعروف برشيد، أن يحصل على بعثة من الحزب إلى فرنسا في ربيع 1948 وراح يعمل لكسب المناضلين بالحزب لهذا التيار. وعند انفجار الأزمة البربرية في ربيع 1949 ، تمكن بأن يجعل اللجنة المديرة لنشاط الحزب بفرنسا تصدر قرارا باستنكار «خرافة الجزائر العربية المسلمة»، وثارت قاعدة المناضلين بفرنسا على القرار، وأرسلت رسائل إلى قيادة الحزب بالجزائر تحتج فيها على أعمال هذه العناصر الملحدة التي تحارب الإسلام والعروبة.
* - قامت قيادة الحزب بإرسال وفد إلى باريس، يتكون من شوقي مصطفاي عضو المكتب السياسي، والصادق سعيدي (من الشخصيات الوطنية المعروفة ببلاد القبائل) وانضم إليهما في باريس محمد خيضر، وبلقاسم راجف.
ومُنع الأربعة من دخول مكتب الحزب من طرف البربريست الذين صاروا يسيطرون على مركز قوة، معتمدين على المغتربين من القبائل الصغرى في الدائرة التاسعة عشرة والدائرة العشرين لمدينة باريس. وفي بروفنس ناحية الجنوب الشرقي. وبفضل البشير بومعزة قاومت القاعدة هذه العناصر . وحدث الاشتباك العنيف، وبعد معركة ضارية تمكن مندوبو القيادة من السيطرة على الوضع، واسترداد مكاتب الحزب من البربريست بواسطة مجموعة من الفدائيين الحزبيين بقيادة بلقاسم راجف.
وقام المناضلون بتطهير مقرات الحزب في سائر نواحي باريس وفرنسا من هذه العناصر البربريست، واستغرق هذا التطهير ثمانية عشر شهرا من العمل الدؤوب، وقرر الحزب طرد محند علي يحي وكل الذين عملوا معه أو أيدوه. كما تقرر غلق صحيفة نجم شمال إفريقيا التي كانت تصدر في فرنسا. وخلاصة ما توصل إليه الحزب من هذه المحنة، أن هذه النزعة البربرية Berberisme تعتبر عملا تدميريا للحركة الوطنية تعمل لصالح الاستعمار. وانضم معظم هؤلاء المطرودين إلى الحزب الشيوعي منهم الصادق هجريس الذي صار زعيم الحزب الشيوعي الجزائري فيما بعد.
* - أما بلاد القبائل فقد قاومت هذا التيار وطهرت منه إحدى عشرة قسمة للحزب، ولم تشذّ سوى قسمة واحدة، وبلغت مقاومة البربريست حدا تبودل فيه الرصاص، حيث جرح أحد دعاته بتيزي وزو وهو علي فرحات.
* - يطبع هؤلاء البربريين حقدهم على كل ما هو عربي وعلى الإسلام وعلى اللغة العربية.
انتهى الاقتباس، ويلاحظ هنا أن الأغلبية الساحقة لمناضلي منطقة القبائل كان أوفياء للوحدة الوطنية ولمطالب الأمة الشرعية، لكن وضعية الطائرة المختطفة بكل ما تتضمنه من ترهيب وضغوط فرضت نفسها في كثير من الحالات.
أليس من المضحك المُبكي أن نتابع اليوم في منابر عربية دعما للتيارات المعادية لكل ما هو عربي، وللتوجهات الفرانكو لائكية التي تحارب السلطات الجزائرية المتمسكة بالدستور وتتهجم على المؤسسة العسكرية الملتزمة بالحكم المدني، وأليس من السخف أن نسمع التعاطف الساذج لأولئك الأشقاء مع هتافات تنادي «دولة مدنية لا عسكرية»، برغم أن من يتغرغرون بها عندنا هم من دعموا عسكرية الدولة، عندما اختطفت المخابراتُ الجيش الوطنيَّ في بداية التسعينيات، وتسببت في وادي الدماء وسور الأشلاء بين الشعب وجيشه، وهي اليوم تعيش وضعية هيستريا لمجرد أن الشعب استرجع جيشه، والجيش التزم مع شعبه.
وسيُتهم خادمكم المطيع اليوم بأنه من عبدة الجنرالات، في حين أن كل وطني جزائري يعرف جيدا الثمن الذي دفعتُه عندما تناقضت مع حكم الجنرالات ممن يتابَع بعضهم اليوم قضائيا بتهمة الإجرام في حق الوطن، والذين يطالب هتافة «دولة مدنية لا عسكرية « بالإفراج عنهم بدون قيد أو شرط.
لكن القافلة تواصل المسير.